فرااااااغ

فرااااااغ

الخميس، 19 ديسمبر 2019

قراءة في قصيدة خيام الريح للمبدعة منية الحسين/ عايده بدر


قراءة في قصيدة خيام الريح 
منية الحسين / عايده بدر
نص يأخذنا في لوحات متدرجة الألوان ، يسبح بنا تارة في زرقة بحر الوجع و يغرسنا أخرى في أرض لا قرار لها من شدة الألم و نحن ما بين هذا و ذاك نقف على رأس السؤال ؟ هل ستظل الريح تعبث بخيمة الروح ؟ 

خيام الريح
خيام الريح ،،، و الريح بما تحمل من مدلول البعثرة في الفضاء تمنحنا هنا رؤية أن تلك الخيام غير ثابتة الأوتاد و إلا لكانت الشاعرة ما لجأت إليها لترسم لنا حالتها النفسية منذ العنوان و نحن نستعد هنا للغوص في لوحات متتالية من الألم من خلال ريشة شديدة الوعي بمفردات لغتها العميقة الاثر في النفوس

يحرثني الوقت
يجذُّ لجام مُهرة الأيام الحرون
يدس أعشاش انكسار الضوء
في مجامر الغروب
فيهوي قنديل الشمس
في قبر ليلٍ تسربل بأنين الشفق 
ويتخبط يمام وجدي في غمرة الظُلمة

لوحة أولى تقابلنا سأسميها هنا اللوحة الزراعية و ستعرفون سبب عنونتي لهذا المقطع / اللوحة بهذا العنوان و هي استكمالا للمشهد الذي رسمه العنوان حين تكون الخيام هي خيام الريح و لا وتد يثبتها في أرض القلب فلا عجب أن يحرث الأرض تلك هذا الوقت بمحراث الوجع و لا عجب أيضا لو بذر بذور الألم في قلب تلك التربة لتثمر كل هذا الوجع 
هذا الوقت المتناسل في جبروته و قسوته لا يكتفي بكل هذا بل يلجم عنق الصهيل في حلق مهره تنادي : ألا من نافذة ضوء تهش عن أرضي طيور الألم التي تقتات على روحي ! 
الوقت هنا يستخدم كل أسلحته و لا يبالي بما يقع على تلك الروح التي زرع أرضها وجعا و طوق عنقها ألما بل راح يُسخر الكون بأدواته ليساعده في اكتمال ما وعد به تلك الروح من عذابات و ذلك الغروب يتحد مع الوقت ليفتح للشمس مجامر الألم فتهوى بكل احتراقها في مجمر الوجع لا تطفئها أمواج بحر اعتادت فيه الغرق بل يمد يديه ليخنق عبرة بوشاح من جمر الشفق
فلا تجد يمامات الوجد سوى الظلام يحيط بها من كل جانب فهل سيكون لهديل صوتها من صدح ينير للكون ظلماته بعدما فعل بها الوقت ما فعل ؟!
لاحظوا معي مدى اتقان الشاعرة في انتقاء مفردات لوحتها التي أرادت لنا مطالعتها فهنا لوحة الأرض باخضرارها الذي كانت تتأمل في أن يكون و إن كان الوقت قد حاربها فأتي على أخضرها باصفر الوجع :
لديها هنا أدوات الزراعة التي كان من المفترض أن تمنح الحياة لا أن تسلبها : ( محراث الوقت / أعشاش / مهرة / يمام ) هذه الأدوات التي استغلها الوقت كأسلحة لهدم الحياة بداخل روحها فكان لهذا الجزء من لوحتها نصيب من الألم كبير 
استخدام المواقيت ( غروب / شمس / شفق / ظلمة / ليل / ) كل تلك المواقيت على اختلاف مواعيدها هي مواقيت ترتبط أيضا بزراعة الأرض و فلاحتها و الأرض هي أم الحياة و رحم البذرة الاولى للنماء
المواقيت هنا باختلافها لكنها لا تعني سوى الليل و النهار و كأن الوجع هنا لا يهدأ و لا ينام فحين يحين الليل يشتد و حين يأتي النهار فلا يبالي بوجود الشمس حتى في لحظات الهجوع إلى الموت و هو ما تمثله لحظة الغروب فهو أيضا لا ينفك يُهدي إليها مزيدا من ألم لا تلد لحظاتها بريق أمل في غد جديد
الأماكن التي اتخذتها الشاعرة لها إيحاء أيضا يرتبط بالأرض ،، فالمكان تحول إلى " قبر " ما دامت الأيام لا تعرف عن الرحمة شيئا بل هي " الأيام الحرون " التي لا تستمع لروح تئن من وطأة هذا الألم بل تتمادى متحدة مع كل تلك الأدوات لتشكل لوحة الارض المختنقة من شدة الوجع و هنا نعود إلى العنوان لندرك قيمة " خيام الريح " التي بدأنا بها و إليها نعود كلما اكتملت لوحة من لوحات الحرف هنا 

من يأخذ مني المجداف المكسور؟
من يرتق جُرح شراعي ويوقف 
نزيف البحر؟
من يُشعلني..يَسقيني..يأويني من عز البرد؟

اللوحة الثانية مرسومة بذات الريشة لكنها تتخذ من اللون الازرق سيدا لريشتها ، فاللوحة هنا لوحة مائية نقف على شاطىء الوجع تقابلنا أدوات مختلفة اتخذ منها الوقت أيضا أسلحة له فهنا :
( مجداف / شراع / بحر / ) جميعها أدوات أيضا تمنح الحياة بصورة مختلفة لكنه الوقت عدو الشاعرة منذ البدء نراه يأخذ منها الحياة هنا مرة أخرى و يستخدمها ضدها فذلك البحر ينزف لا يمنح الموج و النزف يكون للدم لا للماء كما في الموج فنحن هنا أمام اضطراب و هياج في قاع تلك الروح التي تنزف من دمها الكثير و مجدافها مكسور و شراعها مجروح فكيف ستنجو من كل هذا الخضم ؟
تتوالى الشهقات في سديم التساؤلات التي لا تنتهي و لا مجيب سوى هذا الصدى مرددا نفس السؤال : من؟ من يفعل ، من يأخذ ، من يرتق ، من يشعل ، من يُسقي ، من يأوي .... كل هذه التساؤلات لا تدلنا على كم الأوجاع التي امتلأت بها روح الشاعرة فحسب و لكنها تمنحنا صورة واضحة لكل هذا اليأس الذي اعتراها في طريق مضن طويل من البحث غير المجدي عن روح تحمل لها مشعل النور و تهديها بعض إشراق ليفسح للنور في أيامها مكانا 
مجداف مكسور / شراع مجروح / بحر ينزف / برد يصقع الروح ألا يمنحنا كل هذا صورة للحطام الذي وصلت إليه تلك الروح الباحثة عن لمحة نور في الظلام
رسمت الشاعرة هنا لوحة للبحر بكل هياج أمواجه و انتقت مفرداتها بأناقة عالية فلم تشذ في رسمها بمفردة بعيدة عن جو البحر المدلهم الذي رسمته لنا بعناية و اقتدار بليغين 


من بين عرائش الذكرى 
ألمح ضي 
يتسلق أهداب الليل 
يغرس في جسد الجدران 
ملامح طيف

هنا ذروة القصيد و انفراج اللحظة الصامتة عن كل شيء سوى هذا الضوء ،، هنا تنفست الشاعرة الصعداء فبعد لوحتان من العناء و الألم و الهيجان المادي و المعنوي تأتي لحظة التنوير و انفراج الأزمة فكيف حدث هذا ؟ 
" من بين عرائش الذكرى " و هذا يعني اختباء هذا النور طويلا و استدعائه من عمق سحيق حتى أتى فكم من تراتيل و صلوات قدمتها تلك الروح الشاعرة حتى أتى هذا الطيف من هذا العمق السحيق و رغم كونه مجرد ضوء لن يبدد كل هذا الظلام دفعة واحدة لكنه كان من القوة التي تركها في نفس الشاعرة بحيث أصبح هو دليلها نحو الحياة 
هذا الضوء البسيط تسلق أهداب الليل إذن هو من استطاع التسلل إلى الحلم ليفتح عين اليقظة على بعض الأمل و يغرس في الجدران ثمة حياة قادمة 
نلمح هنا مفردات جديدة هادئة لا تخلق مثل الجو السابق من الألم و المعاناة و التوتر الحادث بحدوث الظلام و لكن هنا النور يأتي فتهدأ النفوس و تبدأ في التأمل لما حولها 
( يأتي/ يتسلق / يغرس/ ) تلك الأفعال المضارعة التي أتت تباعا لتمنح لنا مدلول الاستمرارية في الفعل فهذا الضوء رغم ضعفه لأنه أتي من عمق بعيد في الذاكرة لكن له من القدرة على الاستمرارية ما يجعله قويا بالفعل و القوة معا كما يقول علم المنطق 
نلاحظ أنه أتى يغرس مما يعني أنه سيترك في عمق تلك الروح ما اقتلعته يد الوقت في بداية القصيدة و كأن " يغرس " هنا أتت للرد على اللوحة الأولى الزراعية التي استخدمت فيها الشاعرة كل أدوات الزراعة كأسلحة مضادة للغرس و هذا التضاد الرائع جاء بكل تأكيد ليمنح القصيدة عمقا أكبر في هذا المقطع .. و هذا يجعلنا نعود مرة أخرى للعنوان " خيام الريح " حيث الغرس هنا سيكون في جسد الجدران و الخيمة جدرانها ليست ثابته لكن هذا الطيف يعرف كيف يثبت الجدران فلن تصبح للريح فيها مكان من بعد الآن 

هذا الطيف 
من ألف عامٍ ويزيدخلع وجهه 
في مرآتي
علق قلبه على شرفاتِ الدمع
وعلى ثغر الفنجان نسى شفتيه
سافر 
حيث تسافر كل الأشياء
رابض خلف سديم الصمت

رغم تقريرية هذا المقطع من القصيدة و هو يحوي كل هذه التفصيلات في وصف هذا الطيف و أفعاله و أعماله و كأننا هنا نبدأ رحلة فرعية للتعرف على قوة هذا الطيف في نفس الذات الشاعرة ،،، هي هنا لتخبرنا كم قويا هو ليفعل ما كانت تبحث عنه في اللوحة الثانية من القصيدة ولعلكم تتذكرون حين قالت :
(. 
من يأخذ مني المجداف المكسور؟ ?من يرتق جُرح شراعي
ويوقف نزيف البحر ? 
من يُشعلني..يَسقيني..يأويني من عز البرد؟
)

هذه التساؤلات الحائرة منحتها الشاعرة في هذا المقطع إجابات منطقية فهذا الطيف ( خلع وجهه منذ ألف عام في مرأتها ) و العدد الذي ذكرته الشاعرة هنا ( ألف عام ) دليل حي على قدم عهدهما معا هي و الطيف و لهذا لا نتعجب من استخدامها للفعل ( يغرس في جسد الجدران ) فطالما كانا على العهد منذ هذا القِدم فمن البديهي أنه يستطيع تلوين الايام كما استطاع أن ينزع عنها ألوانها حين رحل من قبل و سافر في الصمت بعيدا تاركا خلفه كل هذا الوجع بكل أشكاله المختلفة
لننظر معا لتلك المفردات : ( خلع وجهه / علق قلبه / نسى شفتيه / سافر/ رابض ) رغم أن جميعها أفعال ماضية لكن نلاحظ أن دلالتها تتسع لتمنح فرض هذه الأفعال نفسها حتى على الوقت الحاضر فكأن ما فعل قبلا كانت نتيجته البديهية هي لوحات الألم و الوجع التي مرت بنا سواء كانت اللوحة الزراعية المرتبطة بالأرض أو اللوحة المائية المرتبطة بالبحر و هذا يعطينا دلالة أن تلك الروح الشاعرة قد أحاط بها الوجع برا و بحرا فلم يترك لها مكانا لتتنفس بعض الأمل 
رغم السفرو الرحيل و هجر القلب و الابتعاد إلا تلاحظون معي أن هذا الطيف كان من الذكاء بحيث لم يرحل كليا بل أنه ترك منه ما يجعله حاضرا و بقوة حتى لو طرحته الذاكرة في أدراجها و أغلقت عليه جيدا ولننظر هنا ( خلع وجهه / علق قلبه / نسى شفتيه / ) فهل من يترك كل هذا و يرحل .. هل يرحل فعلا ؟ أم أنه يسافر و يعود ؟ّ! و تستدعيه الذاكرة في الوقت المناسب ؟!
.
أيها المهاجر،
مرت أعوام وأنت غافي هناك 
خلف كثبان الحرمان
وأنا أُناغي المسافات بسُعار الشوق
أُمشط حقول الذكرى
عن نبضكـ الشارد مني
بعوز يتيم يفتقد أبويه
أسأل عنكـ رماد الفرح
أقلم أظافر القدر بقطرةِ صبر
وكأس الوهم لم يعد يكفي
لسد رمق العطش
الموج ذبل 
والبحر أفرغ نحيبه في صدري
أكل الملح قمح قلبي 
وخيول اليأس 
صهلت في ذاكرة الجرح العتيق.
يامن صب دمه في جوف قلبي 
وتوسد الموت 
أنا هنا 
أفترش ضَريح السنين بحُطام وجهكـــ 
أُشعل عِظام قلبينا وأحترق من البرد
أستسلم للموت يتنفس في رئتي 
ويطفئ عين العمر

جميع ما جاء هنا في هذا المقطع يقع في قائمة النداءات الطويلة التي تطلقها الروح بعد أن جاوز الوجع كل مشارف التحمل و بات الألم هو الزاد الذي تقتات عليه صبح مساء ،،،
كل تلك النداءات تمنحنا كثيرا من تفاصيل اللوحة التي شارفت شاعرتنا على الانتهاء منها و كأنها لا تريد أن تنهيها إلا و قد ضمنتها كل ما يعتمل في خلجاتها من أنين و رؤى و أحلام و آمال تحطمت بهذالا الهجر و الابتعاد ،،،
و كأننا نستدعي العنوان مرة أخرى فكل ما حدث كانت نتيجته هذا العنوان أن الريح أصبحت هي وتد خيمة تلك الروح الشاعرة و أن كل ما ترسمه الأن هو توصيف للحالة النفسية التي وقعت على الذات الشاعرة و ها قد جاءت مفرداتها من العمق ما يلامس شغاف الوجدان و ليصبح هذا المقطع بكل مفرداته ردا على المقاطع السابقة فجميع المفردات هنا ليست بغريبة علينا فقد تم استخدامها في القصيدة سابقا كأسلحة ضد الذات الشاعرة 
( أناغي المسافات / أمشط حقول الذاكرة / أسأل عنك / أفترش ضريح السنين /أقلم أظافر القدر / أشعل عظام قلبينا / أحترق من البرد / أستسلم للموت ) جميع الأفعال هنا كانت الذات الشاعرة حاضرة فيها بقوة و تمكن لترسم الحالة المادية و المعنوية بكل هذه القوة ...
و الشاعرة بمنطقية تمنحنا سبب أن تصل إلى هذه الحالة عندما تخاطبه ( أيها المهاجر / أنت غافي / نبضك الشارد / ) فكم كان هذا الهجر من القسوة و كم كان سعيها حثيثا في اجتثاثا سبب هذا الهجر رغم السلبية التي تمتع بها هو في مقابل الايجابية الشديدة للذات الشاعرة فكل أفعال المنسوبة لها تتمتع بالقدرة على ارتكاب الفعل بينما الافعال المنسوبة إليه هو جميعها أفعال سلبية تجعله مقيدا إلى الغياب أكثر منه للحضور في لوحتنا 
و لم تنس الشاعرة هنا أن تستعين بأدوات الكون حولها لتسخرها لتكمل بها لوحتها فعناصر الكون حولها عاونتها على رسم تلك اللوحة ( ذبل الموج / أفرغ البحر نحيبه / أكل الملح قمح قلبها / خيول اليأس / الدم المصبوب في جوف قلبها / تنفس الموت في رئتها ) فأي صور رائعة رسمت هنا رغم كل هذا الألم فهل يمكن لهذا المهاجر أن يدرك ما تحملت الروح هنا من أوجاع ؟ 

فهل أحضرت وشاح الشمس
المخضب بالدم
أم جئت لتصطلي نيران جليدي 
تنصب فوق ضلوعي المتهدلة
خيام الريح و
ترحل؟
/
زهرة برية

يبدأ هذا المقطع بسؤال و رغم ما يوحي مدلول السؤال بأننا لا زلنا نستكمل رحلة الوجع لكننا سندرك بعد وهلة أن قطار الوجع هنا قد توقف عن السير بسرعة الألم و اتخذ من رصيف السؤال محطة له ليستريح من اللهاث و نستريح من ركضنا خلفه
هل أتيت أيها الطيف كمجرد ذكرى عابرة لتزيد من الجرح و يظل نهر النزف دائم الجريان ؟ أم جئت لتشعل هذا الجليد الذي يحيط بأعماق الروح ببعض نيران اشتياقك فلربما أحيت تلك الضلوع التي افترسها يأس الانتظار و وجعه ؟
فهل ستظل الريح تطيح بخيامي أم ستثبت أوتادها بعودتك ؟
يبدأ المقطع بسؤال اختياري و مشروط في ذات الوقت فهل جئت أيها الطيف لتفعل هذا او ذاك و إذا فعلت فهل تدرك نتائج حضورك و نتائج قرارك بما ستفعل ؟ 
في هذا المقطع رجاءً أن يتوقف كل ما مر بنا من ألم و أن يكون القرار سريعا و موقفا ثابتا تستطيع من خلاله الروح أن تعرف لأي الاتجاهات ستتجه و أي أنواع الأالم سيكون بانتظارها أم أن الشمس ستشرق للمرة الأولى بدربها دون أن تحرقها بنيرانها و ستكون بردا و سلاما عليها بعد أن اصطلت بكل هذا الحريق ؟
و السؤال الذي بدأت به شاعرتنا المقطع و انهته به يجعلنا ندرك أن هنا تغيرا في منعطف القصيدة ليفتح لنا بابا جديدا ذي اتجاهين و سيكون ذلك تبعا للإجابة التي تنتظرها الذات الشاعرة منذ شرعت في رحلتها عبر الحرف و اللون معا
منية الحبيبة
رحلة طويلة بدأت مع حرفك الرائع الذي أرجو أن يكون ابحاري فيه جاء موفقا و قد ألتمس لنفسي بعض العذر منه حين يكون موجك مليىء بهذا الشجن الكثيف و الذي منح الابحار فيه متعة و جمالا
لك محبتي صديقتي و لحرفك الرائع كل المحبة و التقدير
و مزيدا من انسكاب الضوء ها هنا
محبتي
عايده