النافذة / قصة قصيرة
عايده بدر
يقف خلف النافذة بامتداد الساعات، لا يسأم ولا يضنيه التعب، كلما تذكر وهو في صميم مشاغله اليومية و أعباء وظيفته الهامشية، أنه سيعود للبيت ،وسيقف خلف النافذة كان يشحذ همته لينهي عمله سريعا، أو يلقي بدفاتر الأعمال على مكاتب الزملاء، يريد أن ينهي يومه سريعا فالنافذة بانتظاره .... لم تعد الوحدة تسكن معه، فقد طلقها بعد شهور قليلة منذ انتقاله لهذا البيت، وماذا كانت تعني الوحدة غير هذا البرد الذي يحيط جدرانه ويلون بالشحوب أيامه .... لم يعد مهماً الآن، فقد ذهبت الوحدة إلى من يطلبها، ربما لحقت بروح أمه التي تركته وحده، وانتقلت إلى جوار أبيه في عالم سماوي بعيد، أو ربما لحقت بزوجته التي فرت من زواجهما بعد شهور قليلة، وادعت أنه لا يصلح لمعاشرة البشر، وأن به مسا من الجنون، لماذا يخونه الجميع و يتركونه وحيدا ؟
لم يعد يشغل نفسه كثيرا بهذا التساؤل .. ليذهب من يريد المهم الآن أن لديه هذه النافذة .. أين كنتِ من زمن أيتها الرائعة، يحتضن النافذة بكلتا يديه و يناجيها .. لن تتركيني أنتِ أيضا.... فخلف النافذة انفتح له عالم آخر ، يأتيه من بعيد؛ عطرها الذي يدلف إلى رئتيه فيمتلئا بالشذا، جسدها الغض الذي يحمل تفاصيل طفولة مودعة، ويفتح باب أنوثة واعدة بالكثير، موسيقاها التي تتراقص عليها ، ألوان ملابسها التي تزدهي بالورد، أمواج شعرها، أصوات أصدقائها، أبويها ، تفاصيل حياتها ، كل ما يتعلق بها.... هي لا تراه فكلما همت بالخروج إلى شرفتها، ابتعد مختبأ حتى تعود لغرفتها، فيعود هو للنافذة التي لم يفتحها يوما، بل ظلت منذ حل بالبيت مواربة لا تفتح ولا تغلق..... حتى الطعام بات يشاركه الاطلاع على تفاصيلها، يرتدي ملابسه بجوار النافذة ، يتحمم سريعا و يخرج ليلحق بالنافذة ، لا يعترف بوجود جيران آخرين غير تلك الشرفة هناك، لذلك لم يكن يعير دقاتهم على بابه أي اهتمام ، في وقته البعيد وقبل أن يلتقي النافذة كان يحب القراءة و الاطلاع، لكن لماذا يضيع وقته الآن في فعل شيء لن يجديه نفعاً أمام ما تقدمه له النافذة، لقد اقتصرت دوائر حياته على هذه النافذة، وذلك الباب الذي يخرج منه لعمله ويعود بأسرع ما يمكنه .
هذا اليوم ظل وقتا طويلاً ينتظر خلف النافذة، حتى كلّت قدماه من التعب، فجلس على كرسيه المعتاد، وهو يسرد للنافذة تفاصيل يومه.. وحكايا الضجر الذي ينتابه قبل أن يأتي وقت انصرافه إليها.. وارهاقه البادي على ملامحه الأربعينية.. ظلت عيناه مثبتتان هناك على شرفتها التي لا تغلقها، أصبح الوقت يمر ببطئ شديد، والساعات تنضد بعضها بعضاً، وعيناه هناك مثبتتان خلف النافذة ، مَرّ يوم ، يومان ، ثلاثة، وبدأ عطره يتسرب إلى من حوله من الجيران... فهرعوا يبحثون عن مصدر تلك الرائحة.. توالت الدقات فوق بابه... لكنه كان هناك مثبت خلف النافذة .... احتدمت الدقات وأمام قوتها وعنفها انكسرت أقفال الباب، وقفوا في ذهول أمامه .. حاولوا انتزاع يديه وهي تحتضن النافذة التي انفتحت للمرة الأولى، فتنظر الفتاة نحوها بكل أسى .....
عايده بدر
5-9-2014