فرااااااغ

فرااااااغ

الثلاثاء، 9 أغسطس 2016

الجسر / عايده بدر





 
الجسر
لا أحد يعلم كم يمضي عليه من وقت وهو جليس الجسر، كيف ينمو الليل على شرفة روحه ، وهو يتابع الأضواء المتوهجة هناك، وأصوات لا يكاد يميزها لكنه موقن أنها تتلألأ من هناك وتناديه، والحياة التي تتوقف ليلا حتى يفرغ الجسر القديم من هواء الليل ويستقبل الفجر بموعد جديد.
كل من يمر بالجسر ينخلع قلبه من الضباب المحيط به، والأصوات المفزعة التي يحدثها تلاطم الموج أسفله، وهذا اللون الأسود الغريق الذي يدثره، أو هكذا يخيل إليهم، رغم سكون الموج وركود حركته، لا أحد يعلم بالتحديد متى ظهر هذا الجسر ولا من أقامه وشيده ، والحديث الذي يتوقف على شفاه الكبار و المسنين إذا ما تجرأ أحدٌ من الصغار وسأل ؛ إلى أين يمضي هذا الجسر وإلى أين يصل طرفه الآخر؟ يزيد من غموض هذا المكان الذي كأنه نبت فجأة في قريتهم، يبدو أن الكبار أنفسهم لا يعلمون عنه شيئا، وما صمتهم أمام أسئلة الصغار إلا صمت متوارث جيلا بعد جيل .
من يستقبلهم الجسر يوميا لا يستطيعون العبور سوى خطوات دائرية فوق ممشاه، بالكاد يعدون خطواتهم على أصابع اليد الواحدة، ويصيبهم فزع شديد وتتصبب ملامحهم خوفا لمرأى امرأة مشعث شعرها، تجرجر طفلا صغيرا في يدها، وتغرق به خلف الضباب المحيط بالجسر، لكن أحداً لم يتكلم يوماً مع تلك المرأة أو يؤكد أنه شاهدها بالفعل لحماً ودماً ، جميعهم يصفون شعرها الليلي الطويل، والظلام البادي حول عينيها ووجهها الشاحب غرقا في بياض مخيف، ويصمتون عندما يتساءلون بينهم لماذا لم ينادها أحدُ من قبل أو يمضي خلفها، والشباب يرمون بعضهم بعضا بالجبن أمام حضورها الذي لا يستغرق سوى لحظات لكن كأنها الدهر، الأمهات تزعم أنها سبب ضيق الأرزاق في هذه البلدة ،و يحذرن أولادهنَّ من الاقتراب منها أو الحديث عنها، تكاد حكاية هذه المرأة أن تكون فزاعة يستخدمونها عند النهي عن أمر لا يريدون حدوثه.
أما عنه هو فلم يعد أحدٌ الآن يستغرب توقفه الدائم بالجسر ليلا أو صمته وهو يحدق في وجه الضباب ، في بدء الأمر كانت دموعه التي لا تصمت تستحوذ على أفكارهم، وكانت تمتمات كلماته التي لم يستوعبوا شيئا منها دائما محل تفسير البسطاء وتأويل من أوتي علماً، لكن أحداً لم يصل لأمر جازم بشأنه، فكأنه لغز آخر أضيف إلى ما لا يعرفون، فكما لم يعرفوا سر هذا الجسر، فلا يعلموا سر هذا القابع أمام الجسر، يظهر ليلا جالسا متأملا لأضواء يصفها لهم ويشير إليها لكنهم عاجزون عن رؤية ما يصف لهم ولا يسمعون تلك الأصوات التي يحدثهم عنها، ويبدو كأنه وحده من يسمعها ، حدثوه جميعاً عن تلك المرأة التي يرونها تخرج من الضباب، تجرّجر في يدها طفلا صغيراً، و حده ينفي رؤيتها و يجيبهم عنها بعبرات لا يكادون يفهمون منها شيئا غير مزيد تفاسير لا طائل لها
تساءلوا كثيراً فيما بينهم متى حضر إلى قريتهم ؟ ماذا يعمل و بأي صنعة يشتغل ويملأ نهاره طالما يمضي ليله قابعا على طرف الجسر؟ هم فجأة وجدوه ؛ و هو من نبَّههم إلى هذا الجسر المهمل، أين كان هذا الجسر؟ و كيف لم يلتفتوا إليه قبلا؟ ، كأن هذا الجسر كان مختبئا بين الأحراش وظهر فقط بظهور الغريب، فأصبح واضحاً أمام أعينهم أو لعل الجسر ظهر ليظهر معه الغريب.. لا أحد يعلم وليس ثمة إجابة.
الخوف جعلهم يربضون في بيوتهم بدءاً من نزوح الشمس عن جانب الجسر، فأصبح كل واحد منهم يلزم بيته حتى يدق الفجر نوافذهم ،و لحياة تسير رتيبة كأن عجلة الفلك ربطت أجسادهم في آلية عمل لا يتوقفون أمامه، فجرا يخرجون جميعا باتجاه الأرض، نهارا يبذرون ويحرثون و يسقونها ، ونساؤهم يحصين الأطفال كما يحصين أجولة الحصاد، تمتلئُ القرية كل عام بحصاد جديد من الأرض ومن النساء، وهم دائما يرددون : نعمل من أجل أطفالنا حين يكبرون، لنوفر لهم ما يأكلون والجفاف القادم لابد له من حيلة، والسماء بعيدة حين نمد إليها أيدينا بالبذور لا تنصت لنا ، بالكاد تجيبنا ببضع زخات هزيلة، من أين للسماء بدموعها وهذا الضباب يغلف سماء القرية ولا ينزح عن أنفاسهم حتى مع الدعوات و الصلوات
كان ظهور هذا الغريب حدثا أخرجهم عن دائرة الرتابة وفتح شهيتهم لأحاديث جديدة وتفاسير مطروحة من قِبل الجميع عن أصله وبلده ومن أين هبط إليهم ، ذات ليل وجدوه مزروعاص أمام الجسر الذي ظهر معه ولم يكن أحدٌ من قبل يعلم عن وجوده ، أتى هذا الغريب بالجسر وبالضباب وبهذه المرأة التي تجرجر طفلا في يديها ثم نهارا يغيب الجميع وتزداد كثافة الضباب حول الجسر كأنه يختبىء عن عيون الفضوليين.
ذات ليلة شهق الجميع على إثر صيحة مدوية هرعوا إلى خارج بيوتهم تاركين كل الخوف جانباً، ولعله هو نفسه الفزع الذي تملَّكهم حين شاهدوا الغريب يصحب المرأة التي تجرجر طفلا في يديها ويرحلون من فوق الجسر الذي بدا لأول مرة واضح التفاصيل، ولأول مرة يرون إلى أين يؤدي ممشاه الطويل، ويسمعون أصواتاً كان يتمتم بها ولا يصدقون ... يغادر الغريب مع المرأة والطفل والضباب والجسر تاركين القرية بكل ساكنيها جاثين على ركب الفزع وصيحة عظيمة حصدت أرواحهم.


عايده بدر
9 / 8 / 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق