السور يعلو إلى أسفل
تضع الغداء أمامنا وهي متأففة كعادتها، شوحت ناظريّ بعيدا عنها عبر النافذة، نحو السور الجديد لمزرعة الكبار؛ كي لا أفقد شهيتي للطعام، وقبل أن أمد يدي وأطفالي.. راحت الأرض تهتز ، والأطباق القادمة ترتعش في يد زوجتي الحانقة، وأولادي يتمايلون ، وهم يصرخون..
صوت انكسار الأواني بالمطبخ، مع صوت مذيع الراديو يعلن أن مقياس "ريختر" يسجل سبع درجات ونصف..
الصراخ يعلو وينتشر، وصوت الارتطام والهدد يُسمَع بوضوح، الأتربة الكثيفة تتصاعد، وضوضاء مفزعة تعم الجميع.. تهرع زوجتي وأطفالي، وكل الجيران يتدافعون على السلَّم طمعا في النجاة.. أهمُّ بالوقوف مترنحا، أحاول السير تجاه الباب كي ألحق بهم، فلا أستطيع ، ألتفت إلى البلكونة، أخطو بضع خطوات.. أشعر بدوار، أستند بيد ٍإلى الحائط وبالأخرى على حافة السرير، تتطلع عيناي الزائغتان نحو السور، الحراس الواقفون على بوابته لا يزالون كما هم بلا حراكـ،، البناءون يعملون بجد، والسور يعلو ويعلو..
أقترب مترددا من حافة البلكونة، أرتمي مستندا على حافتها الحديدية.. زوجتي وأولادي والجيران يصرخون، يطالبونني بالنزول إلى الشارع؛ فلم يبق سواي بالمبنى القديم.. أتأملهم في ذهول ، والدوار يشتعل برأسي، يحاصرني لحظاتٍ ، ثم يهدأ ليحاصرني من جديد..
الطوب يتساقط من علوّ ، والصراخ يعلو .. وها هم الحراس يغادرون مسرعين، والبناءون يعملون بهمةٍ ونشاط، السور لم يزل يعلو .. ويعلو ..
زوجتي وأولادي والجيران يخبو صراخهم، يبتعدون ويبتعدون.. يتناثر الهدد أمام عينيَّ، وكل السكان غادروا المكان، يعاودني الدوار بشدة، وأحس برأسي ثقيل جدا، لا أقوى على الوقوف، أسقط وعيناي معلقتان بالسور البعيد، أراه يقترب ويقترب، لكنه يصغر ويصغر..
أغمض عينيّ.. يسّاقط السقف فوق رأسي، يمتزج الصراخ بالهدد، ويعلو السور رويدا، ثم يغوص إلى أسفل..!
***
د/ ثروت عكاشة السنوسي
مصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
تضع الغداء أمامنا وهي متأففة كعادتها، شوحت ناظريّ بعيدا عنها عبر النافذة، نحو السور الجديد لمزرعة الكبار؛ كي لا أفقد شهيتي للطعام، وقبل أن أمد يدي وأطفالي.. راحت الأرض تهتز ، والأطباق القادمة ترتعش في يد زوجتي الحانقة، وأولادي يتمايلون ، وهم يصرخون..
صوت انكسار الأواني بالمطبخ، مع صوت مذيع الراديو يعلن أن مقياس "ريختر" يسجل سبع درجات ونصف..
الصراخ يعلو وينتشر، وصوت الارتطام والهدد يُسمَع بوضوح، الأتربة الكثيفة تتصاعد، وضوضاء مفزعة تعم الجميع.. تهرع زوجتي وأطفالي، وكل الجيران يتدافعون على السلَّم طمعا في النجاة.. أهمُّ بالوقوف مترنحا، أحاول السير تجاه الباب كي ألحق بهم، فلا أستطيع ، ألتفت إلى البلكونة، أخطو بضع خطوات.. أشعر بدوار، أستند بيد ٍإلى الحائط وبالأخرى على حافة السرير، تتطلع عيناي الزائغتان نحو السور، الحراس الواقفون على بوابته لا يزالون كما هم بلا حراكـ،، البناءون يعملون بجد، والسور يعلو ويعلو..
أقترب مترددا من حافة البلكونة، أرتمي مستندا على حافتها الحديدية.. زوجتي وأولادي والجيران يصرخون، يطالبونني بالنزول إلى الشارع؛ فلم يبق سواي بالمبنى القديم.. أتأملهم في ذهول ، والدوار يشتعل برأسي، يحاصرني لحظاتٍ ، ثم يهدأ ليحاصرني من جديد..
الطوب يتساقط من علوّ ، والصراخ يعلو .. وها هم الحراس يغادرون مسرعين، والبناءون يعملون بهمةٍ ونشاط، السور لم يزل يعلو .. ويعلو ..
زوجتي وأولادي والجيران يخبو صراخهم، يبتعدون ويبتعدون.. يتناثر الهدد أمام عينيَّ، وكل السكان غادروا المكان، يعاودني الدوار بشدة، وأحس برأسي ثقيل جدا، لا أقوى على الوقوف، أسقط وعيناي معلقتان بالسور البعيد، أراه يقترب ويقترب، لكنه يصغر ويصغر..
أغمض عينيّ.. يسّاقط السقف فوق رأسي، يمتزج الصراخ بالهدد، ويعلو السور رويدا، ثم يغوص إلى أسفل..!
***
د/ ثروت عكاشة السنوسي
مصــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــر
القراءة / عايده بدر
السور يعلو الى أسفل
كم رائع هذا العنوان و يلخص العبرة التي جاءت بين طيات القصة هنا و المفارقات التي تقوم عليها الأحداث
ما بين مجتمعين مختلفين يقوم سور يفصل مزرعة الكبار عن غيرهم ،،، يجعل من عالمهم عالم آخر مختلف لا يعرف الفقر و المعاناة و الألم الذي يعانيه الآخرون بينما من خلف السور هناك من يعيش حياة رغيدة مكتملة و يفصل بينهم و بين الآخرين سور يعلو و يعلو رغم هذا الزلزال الذي يرج الأرض تحت أقدام الآخرين
تنهار حياتهم و يحصدهم نوبات صارخة من قلب الأرض بينما السور يعلو و يرتفع
المفارقة الأخيرة حين ينهار كل شيء فوق رأس بطلنا هنا و يتهاوى جسده و لا يزال سور الكبار يعلو بينما هو يتهاوى بجسده للأسفل ،،، يسقط من علٍ فيبدو له السور رغم ارتفاعه للأعلى و كأنه يغوص في الأرض
يروق لي سردك المتميز أخي العزيز د. ثروت عكاشة
فمتانة السرد و جمال الفكرة و تطويع اللغة القريبة للذهن كل هذا يمنح المتلقي قصة متميزة كما بين أيدينا
كل التقدير لك و لحرفك المتميز كل البهاء
عايده
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق