وفاء"
هيام قبلان
منزلها في آخر الممرّ المؤدي الى " عين البلد" ، تصطف فوق جدرانه جرار الحبق ، ومن شرفاته تتدلّى أعناق الياسمين حتى تكاد تلامس شفة التراب ، فمنذ زمن لم تزلّ قدم وتنزلق فتهوي الى الحفرة المليئة بأوراق حملتها رياح الخريف ، وبقايا من أعواد ثقاب ، وربما قطة هاربة كانت تبحث عن ضالتها أو عن قوتها بين فضلات تناثرت هنا وهناك .
كعادتها تجلس وراء النافذة تلامس بقايا قطرات ندى سقطت مع صيحة أول ضوء للفجر،، تقفل النافذة ترتشف فنجان قهوتها الصّباحي، تحلّق بعينيها الى البعيد ، ترقب الطريق الطويل الذي يؤدي الى القرية ،، تدندن مع صوت فيروز " في قهوه ع المفرق في آخر المشوار" تكسر السكون المخيّم برتابة الساقط على رؤوس أشجار الصنوبر المحيطة بجدران البيت ليصطدم الصدى بصرير عجلات عربة يجرها حصان ،، ها هو الذي تنتظر يترجّل ، وسيم الطلعة ، فارع القوام ، يغسل وجهه بماء العين يغمض عينيه متنفّسا الصّعداء ، ويرمي حجرا صغيرة في الماء كما يفعل كلّ صباح ويمضي في طريقه .
- يمرّ الوقت بطيئا ،، يا الهي متى سيرفع عينيه نحو نافذتي ،، ألا يحسّ بوجودي ؟ تجرجر " وفاء " ذيل ثوبها الطويل وتبدأ بترتيب وقتها المتعقرب على الحيطان الضاغط على زناد دقات الساعة الهرمة
لا تفردي جناحيك للريح ، ستأخذك الى حيث لا تدركين .
أطلقت زفرة صاحبتها لعنة شيطانية عابثة أعادتها الى الطفولة : " حدّثتني جدتي حين ولدت في عزّ البرد بأنّ السماء بكت ، طال مخاضها وانحرف قوس قزح عن مساره ،، تعبت " الداية" وهي تعقّم الجرح النازف الذي أتلفه الألم على سرير تحوّل لمعتقل للمقاومة، ثلاثة أيام حتى أطلّ رأسي ودوت صرختي في أرجاء المنزل ، في تلك الليلة تكالبت أصوات مزمجرة وتعالى عواء الذئب في الوادي القريب ، أصيبت أمّي بحرارة مرتفعة ، عجز الطبيب عن انقاذها وفارقت الحياة متدثّرة بوصيتها الأخيرة .
انتهت أغنية فيروز ، خفق القلب انكسارا لشجرة الزيتون المغروسة بالقرب من ساحة البيت ، منذ غادرها " قاسم" واختفى في ظروف غامضة ، لم يدن من غرفتها أحد ولم تفرغ شهوتها الاّ في حلمها وهي تعانق روافد عينيه وتتملّص يده تحت ثوبها الزهريّ تلاعب جسدها النحيف المرتجف المتصبّب عرقا ، بعيدا عن عينيّ جدّتها التي كانت تلجأ لسريرها في الساعات الأولى من الليل بعد يومها الشاق .
- يجب أن تقرري يا " وفاء" ، حين تكبر البنت دون زواج ، دون رجل يحميها ، تعنّس ، يموت في داخلها الحلم ،،آه يا غاليتي اسأليني أنا فقد ترملت في سن مبكّرة .
كم تشتاق لدروس جدّتها ، والى عصبة رأسها المزركشة ، وثوبها الفضفاض يكنس الأرض بصعودها وهبوطها الدرج المسطّح .
- أين أنت يا جدتي الآن ؟ أشتاق لحضنك الدافىء ،، أنا الغريبة ، الوحيدة ،، أعاقر الانتظار ،، يساومني الحلم على عودتك يا قاسم ، أمارس لعبة الاخلاص ، يتقلّص فؤادي بوهم ، والشيب يهرول حافيا ، لو كنت بين الساقطات على أبواب حانة في المدينة لتعثّرت برجل يبعثر دفاتري القديمة ويعيد الى جسدي النابح مراسيمه العابثة ، لو أستطيع أنّ أنسلّ من بقاياك .
تشرنق الشّوق وسرحت بخيالها ، أصابتها قشعريرة الحمّى ونقيق الضفادع أحرق جفون النعاس كلّما علا صوتها .
لم تكن غرفتها تلك الليلة كسابقاتها ، حيث امتزج دمعها بشعاع الشمس وهو يشقّ لحم السّماء ، لفّت كتفيها بشالها البنفسجيّ ، نزلت الدّرج دون حذر ومن وراء سور الحديقة رفعت ستار الخجل " هل أتعمّد الوقاحة ؟ ليكن " .
وقع حوافر الحصان وصرير عجلات العربة ، والشبح القادم من بعيد ،، ها هو بشحمه ولحمه ،، بعينيه اللامعتين ، يستنشق الهواء ، يغسل وجهه ، يقدّم تنازله ، وفجأة يرفع عينيه الى نافذتها ، وكأنه يبحث في الفراغ ، يصطدم بجسدها الواقف أمامه ، " انّها هي وفاء الجميلة الوحيدة التي يتحدّث عنها وعن وفائها أهل القرية ، سقط شالها عن كتفيها ،، انكسرت الثواني البطيئة ، تقفّز عطرها فوق الماء ، رقص الصدّى كأنّه استسلم للظى شفتيها ،، لم تحجب عنهما عين الصباح التحام الفراااااغ ،، ويده تمتدّ الى شعرها تحرّره من لونه الخريفيّ ،، ترتعش ، تهرول ، يلاحقها بعينيه وقلبه ، تسابقه قدماه نحو درجها الصاعد الى السّماء ، نسي في هذا الصباح أن يرمي حجرا في الماء ...!
القراءة / عايده بدر
" وفاء "
اسم و صفة غلبت عليها و ربما هي جُبلت على هذا الشعور بالوفاء ،، فكل ما حولها راحل عنها و معايشة الذكريات تخلق نوعا من الشعور بالاخلاص و الوفاء لها
" وفاء " اسم يحمل من الإخلاص الكثير ،،، لكن لمن يتجه هذا الإخلاص الذي قضت فيه سنوات شبابها تحيا بذكريات كادت أن تشيخ أغصانها و تسقط أوراق العمر تباعا مع خريف الوقت و المنتظر عودته غائب لا يعود
هذا الشبح الآتي من بعيد يصاحب جلجلة الحضور بداخلها و يوقظ شهوة الحلول في مشاعر مرت بها و استقلت قطار الحياة التي لا تتوقف ،،، لم تكن عيناه قد استقرت بعد عند حواشي نافذتها وأعناق الياسمين المتدلية ترسل شذا النداء
الليلة ليست كأي ليلة فكل ألم الغياب و كل وجع الانتظار و زحف أوقات السعادة المهترئة و ركض أوجاع الوحدة فوق جسد تكاد نضارته أن تتهاوى و تتكسر أغصان أنوثته ،،،، لم يعد كذلك
للمرة الأولى تنكسر ثواني الانتظار و تقفز العطور من فوق سياج النداءات و نوافذ مفتوحة على الوحدة ستغلقها يد الشمس بحنان بعد أن تفك جديلة الوقت المتحجر ،،، لابد اليوم من راحة للبحيرة فلن يقد شباكها حجر مرمي في الفراااااغ ،،، لقد امتلأ أخيرا ...
مبدعتنا القديرة و شقيقة الروح / هيام
توقفت كثيرا كما دوما أبحث عن شيء يعرفني و أعرفه بين حروفك
لحنك هذا عذب ماؤه و فياض بالكثير
قراءة سريعة لبعض من فيض و ربما لي عودة للمزيد
أترك لك جورية تحمل محبتي الدائمة لك و كثير امتنان لمتعة تدوم هنا بتفتح الحرفمحبتي التي تعرفين
/
عايده
هيام قبلان
منزلها في آخر الممرّ المؤدي الى " عين البلد" ، تصطف فوق جدرانه جرار الحبق ، ومن شرفاته تتدلّى أعناق الياسمين حتى تكاد تلامس شفة التراب ، فمنذ زمن لم تزلّ قدم وتنزلق فتهوي الى الحفرة المليئة بأوراق حملتها رياح الخريف ، وبقايا من أعواد ثقاب ، وربما قطة هاربة كانت تبحث عن ضالتها أو عن قوتها بين فضلات تناثرت هنا وهناك .
كعادتها تجلس وراء النافذة تلامس بقايا قطرات ندى سقطت مع صيحة أول ضوء للفجر،، تقفل النافذة ترتشف فنجان قهوتها الصّباحي، تحلّق بعينيها الى البعيد ، ترقب الطريق الطويل الذي يؤدي الى القرية ،، تدندن مع صوت فيروز " في قهوه ع المفرق في آخر المشوار" تكسر السكون المخيّم برتابة الساقط على رؤوس أشجار الصنوبر المحيطة بجدران البيت ليصطدم الصدى بصرير عجلات عربة يجرها حصان ،، ها هو الذي تنتظر يترجّل ، وسيم الطلعة ، فارع القوام ، يغسل وجهه بماء العين يغمض عينيه متنفّسا الصّعداء ، ويرمي حجرا صغيرة في الماء كما يفعل كلّ صباح ويمضي في طريقه .
- يمرّ الوقت بطيئا ،، يا الهي متى سيرفع عينيه نحو نافذتي ،، ألا يحسّ بوجودي ؟ تجرجر " وفاء " ذيل ثوبها الطويل وتبدأ بترتيب وقتها المتعقرب على الحيطان الضاغط على زناد دقات الساعة الهرمة
لا تفردي جناحيك للريح ، ستأخذك الى حيث لا تدركين .
أطلقت زفرة صاحبتها لعنة شيطانية عابثة أعادتها الى الطفولة : " حدّثتني جدتي حين ولدت في عزّ البرد بأنّ السماء بكت ، طال مخاضها وانحرف قوس قزح عن مساره ،، تعبت " الداية" وهي تعقّم الجرح النازف الذي أتلفه الألم على سرير تحوّل لمعتقل للمقاومة، ثلاثة أيام حتى أطلّ رأسي ودوت صرختي في أرجاء المنزل ، في تلك الليلة تكالبت أصوات مزمجرة وتعالى عواء الذئب في الوادي القريب ، أصيبت أمّي بحرارة مرتفعة ، عجز الطبيب عن انقاذها وفارقت الحياة متدثّرة بوصيتها الأخيرة .
انتهت أغنية فيروز ، خفق القلب انكسارا لشجرة الزيتون المغروسة بالقرب من ساحة البيت ، منذ غادرها " قاسم" واختفى في ظروف غامضة ، لم يدن من غرفتها أحد ولم تفرغ شهوتها الاّ في حلمها وهي تعانق روافد عينيه وتتملّص يده تحت ثوبها الزهريّ تلاعب جسدها النحيف المرتجف المتصبّب عرقا ، بعيدا عن عينيّ جدّتها التي كانت تلجأ لسريرها في الساعات الأولى من الليل بعد يومها الشاق .
- يجب أن تقرري يا " وفاء" ، حين تكبر البنت دون زواج ، دون رجل يحميها ، تعنّس ، يموت في داخلها الحلم ،،آه يا غاليتي اسأليني أنا فقد ترملت في سن مبكّرة .
كم تشتاق لدروس جدّتها ، والى عصبة رأسها المزركشة ، وثوبها الفضفاض يكنس الأرض بصعودها وهبوطها الدرج المسطّح .
- أين أنت يا جدتي الآن ؟ أشتاق لحضنك الدافىء ،، أنا الغريبة ، الوحيدة ،، أعاقر الانتظار ،، يساومني الحلم على عودتك يا قاسم ، أمارس لعبة الاخلاص ، يتقلّص فؤادي بوهم ، والشيب يهرول حافيا ، لو كنت بين الساقطات على أبواب حانة في المدينة لتعثّرت برجل يبعثر دفاتري القديمة ويعيد الى جسدي النابح مراسيمه العابثة ، لو أستطيع أنّ أنسلّ من بقاياك .
تشرنق الشّوق وسرحت بخيالها ، أصابتها قشعريرة الحمّى ونقيق الضفادع أحرق جفون النعاس كلّما علا صوتها .
لم تكن غرفتها تلك الليلة كسابقاتها ، حيث امتزج دمعها بشعاع الشمس وهو يشقّ لحم السّماء ، لفّت كتفيها بشالها البنفسجيّ ، نزلت الدّرج دون حذر ومن وراء سور الحديقة رفعت ستار الخجل " هل أتعمّد الوقاحة ؟ ليكن " .
وقع حوافر الحصان وصرير عجلات العربة ، والشبح القادم من بعيد ،، ها هو بشحمه ولحمه ،، بعينيه اللامعتين ، يستنشق الهواء ، يغسل وجهه ، يقدّم تنازله ، وفجأة يرفع عينيه الى نافذتها ، وكأنه يبحث في الفراغ ، يصطدم بجسدها الواقف أمامه ، " انّها هي وفاء الجميلة الوحيدة التي يتحدّث عنها وعن وفائها أهل القرية ، سقط شالها عن كتفيها ،، انكسرت الثواني البطيئة ، تقفّز عطرها فوق الماء ، رقص الصدّى كأنّه استسلم للظى شفتيها ،، لم تحجب عنهما عين الصباح التحام الفراااااغ ،، ويده تمتدّ الى شعرها تحرّره من لونه الخريفيّ ،، ترتعش ، تهرول ، يلاحقها بعينيه وقلبه ، تسابقه قدماه نحو درجها الصاعد الى السّماء ، نسي في هذا الصباح أن يرمي حجرا في الماء ...!
القراءة / عايده بدر
" وفاء "
اسم و صفة غلبت عليها و ربما هي جُبلت على هذا الشعور بالوفاء ،، فكل ما حولها راحل عنها و معايشة الذكريات تخلق نوعا من الشعور بالاخلاص و الوفاء لها
" وفاء " اسم يحمل من الإخلاص الكثير ،،، لكن لمن يتجه هذا الإخلاص الذي قضت فيه سنوات شبابها تحيا بذكريات كادت أن تشيخ أغصانها و تسقط أوراق العمر تباعا مع خريف الوقت و المنتظر عودته غائب لا يعود
هذا الشبح الآتي من بعيد يصاحب جلجلة الحضور بداخلها و يوقظ شهوة الحلول في مشاعر مرت بها و استقلت قطار الحياة التي لا تتوقف ،،، لم تكن عيناه قد استقرت بعد عند حواشي نافذتها وأعناق الياسمين المتدلية ترسل شذا النداء
الليلة ليست كأي ليلة فكل ألم الغياب و كل وجع الانتظار و زحف أوقات السعادة المهترئة و ركض أوجاع الوحدة فوق جسد تكاد نضارته أن تتهاوى و تتكسر أغصان أنوثته ،،،، لم يعد كذلك
للمرة الأولى تنكسر ثواني الانتظار و تقفز العطور من فوق سياج النداءات و نوافذ مفتوحة على الوحدة ستغلقها يد الشمس بحنان بعد أن تفك جديلة الوقت المتحجر ،،، لابد اليوم من راحة للبحيرة فلن يقد شباكها حجر مرمي في الفراااااغ ،،، لقد امتلأ أخيرا ...
مبدعتنا القديرة و شقيقة الروح / هيام
توقفت كثيرا كما دوما أبحث عن شيء يعرفني و أعرفه بين حروفك
لحنك هذا عذب ماؤه و فياض بالكثير
قراءة سريعة لبعض من فيض و ربما لي عودة للمزيد
أترك لك جورية تحمل محبتي الدائمة لك و كثير امتنان لمتعة تدوم هنا بتفتح الحرفمحبتي التي تعرفين
/
عايده
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق